فنجان قهوة مع الموسيقيّ أوغسطين لاما | بقلم ميشيل حدّاد

من مجلّة "الذخيرة" [22 تشرين الأوّل 1946] | جرايد

 

المصدر: "الذخيرة" - مجلّة عربيّة فلسطينيّة أسبوعيّة.

موعد النشر: الثلاثاء، 22 تشرين الأوّل 1946.

موقع النشر: جرايد.

 

بقلم: ميشيل حدّاد.

 

كنت في القدس عندما خطرت ببالي فكرة تقديم الموسيقيّين الفلسطينيّين العرب على صفحات الذخيرة، لتعريفهم إلى قرّائها الكرام. ولقد شجّعني زميلي الأستاذ عيسى الناعوري، وسهّل المهمّة، فضرب لي موعدًا مع الأستاذ أوغسطين لاما، أحد الموسيقيّين اللامعين في فلسطين.

واستقبلنا الأستاذ لاما في بيته بكلّ حفاوة، وبعد أن استرحنا أطلعته على قصدي من الزيارة، ورجوته أن يخبرني كيف بدأ حياته الفنّيّة، فقال: "كنت في سنّ الثامنة عندما اختارني أستاذ الموسيقى في مدرسة الفرنسيسكان بالقدس، لأكون أحد أفراد جوقة الترتيل (وهنا ابتسم الأستاذ لاما وطافت على وجهه خیالات عابرة من الذكريات البعيدة واسترسل يقول): ولكنّ «الشيطنة» وقفت في طريق تقدّمي الفنّيّ، فأبت إدارة المدرسة أن تلحقني بصفّ الموسيقى، على الرغم من تفوّقي، لأنّني كنت مشاكسًا إلى حدّ ينطبق عليّ القول «جلدي مش واسعني»، فاضطررت إلى أن أدرس منفردًا مدّة سنتين، حتّى اقتنعت الإدارة بتحسّن سلوكي، وأُعجبت باندفاعي إلى التعلّم، فألحقتني بزملائي، وأخذت أنهل معهم أصول الموسيقى مدّة ثماني سنوات، حصلت بعدها على شهادتي، وأنا الآن حائز على نيشان الاستحقاق الذهبيّ من قداسة البابا. وعُيّنت أستاذًا للموسيقى في المدرسة نفسها الّتي تعلّمت فيها. ثمّ التحقت حديثًا أوستراليا دار الإذاعة الفلسطينيّة، واتّفقت مع الأستاذ "نسيبه" على مرافقته بالعزف على البيانو خلال إذاعته التمارين الرياضيّة. ثمّ سألته: كيف تلحّن موسيقاك، وما هي أشهر قطعك؟ فأجاب: يعتقد الكثيرون أنّ المكيّفات ضروريّة للتلحين ولوضع القطع الموسيقيّة، وقد يكون لها بعض التأثير في الانطلاق والتحرّر من التفكير المادّيّ؛ ذلك التحرّر الّذي يبتعد بالفنّان عن كثير من الأمور الّتي تشغل ذهنه وعقله الباطن.

 

 

أمّا بالنسبة إليّ، فإنّني لا أؤمن بالمكيّفات، حتّى ولا بالتدخين، وعندما أريد أن ألحّن أختلي إلى نفسي في هدوء الليل، محلّقًا في دنيا الخيال مدّة أحسّ عندها بالأنغام تتوارد إليّ، ويأخذ بعضها ينسجم في بعض، فأردّدها بصوتي وأصفّرها، وحينما تتركّز في نفسي أهرع إلى البيانو فأعزفها، ثمّ أدوّنها بالنوتة.

أمّا القطع الّتي ألّفتها، فمعظمها قطع كلاسيكيّة غربيّة، تُعزف في كثير من كنائس أستراليا ومحطّات إذاعتها، وليس لي في الموسيقى الشرقيّة سوى بضع مقطوعات، أشهرها تحيّة جلالة الملك عبد الله الّتي أذعناها في يوم استقلال شرقيّ الأردن"ّ.

وهنا جاءت القهوة، فأخذنا نرشفها على مهل، والأستاذ لاما يحدّثنا بفيض من اطّلاعه الفنّيّ. وعندما تطرّقنا إلى البحث عن المغنّين والموسيقيّين في بلادنا، سألته عنهم وعن كيفيّة النهوض بهم، فقال:

"المطربون العرب في فلسطين يغنّون لأنّ أصواتهم رخيمة، ولأنّهم يحبّون الطرب، ولأنّ بعضهم يرتزق من وراء ذلك. أمّا الموسيقيّون فمغمورون، لا مجال لهم للظهور، وإنّني أرجو تسجيل هذين الاقتراحين؛ الأوّل أن تهتمّ دار الإذاعة الفلسطينيّة بتعليم المغنّين أصول الموسيقى، ليعتادوا على الغناء الفنّيّ الصحيح وعلى قراءة النوتة؛ والثاني أن يُفسح المجال للموسيقيّين في جميع البلدان الفلسطينيّة ليظهروا وراء الميكرفون، فقد يكون بينهم مَنْ يستحقّ التشجيع والمضيّ في هذا السبيل، كما أنّ الجمهور يطلب التنويع وقد يملّ استماع النفر القليل من موظّفي الإذاعة الموسيقيّين.

 

أوغسطين لاما (1902 - 1988) | thisweekinpalestine 
[صورة مُضافة، غير واردة في المصدر الأصل].

 

وبعد أن وعدته بنشر مقترحاته، سألته السؤال الأخير عن رأيه في تعليم الموسيقى، فقال: "يجب أن ينتشر تعليم الموسيقى في جميع مدارسنا؛ ليتعوّد الطلّاب قراءة الرموز الموسيقيّة الّتي هي لغة الإحساس، والعامل الأوّل على إرهاف الذوق الفنّيّ، وأعتقد أنّ رجال التربية يوافقونني على أنّ الموسيقى تساعد كثيرًا على صقل طباع الصغير وتهذيب أخلاقه، وعندما تُدرّس الموسيقى في جميع المدارس، يصبح من السهل اختیار ذوي المواهب الفنّيّة ليُوجّهوا توجيهًا واسعًا في معهد موسيقيّ، يجب أن يُهتمّ بتأسيسه في إحدى مدن فلسطين.

وكان الأستاذ لاما يتحدّث بحماسة، وكان جعلني أوقن بأنّ للأستاذ رسالة فنّيّة لا بدّ أن يؤدّيها في ذلك المعهد الّذي يدعو إلى تأسيسه. وحانت منّي التفاتة إلى البيانو، ولكن قبل أن أقول شيئًا، تفضّل الأستاذ لاما، فعزف لنا تحيّة الملك عبد الله ومعزوفات أخرى من تأليفه، دلّت على عبقريّته ونبوغه في الموسيقى.

وعندما استأذنّا بالانصراف، دعانا لتناول طعام الغذاء على مائدته؛ لكي يصير بيننا «عیش وموسیقی»، فضحكنا وقلت له:

"لنكتف هذه المرّة بغذاء الروح، وإن تلحّ في دعوتنا لغذاء الجسم، ترَ عندها مَنْ يكون فينا الموسيقار الأكبر".

وودّعناه شاکرین مسرورين.

ميشيل حدّاد

 

 

عَمار: رحلة دائمة تقدّمها فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، ليقفوا على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين قبل نكبة عام 1948، وليكتشفوا تفاصيلها؛ وذلك من خلال الصحف والمجلّات والنشرات الّتي وصلت إلينا من تلك الفترة المطموسة والمسلوبة، والمتوفّرة في مختلف الأرشيفات المتاحة. ستنشر فُسْحَة، وعلى نحو دوريّ، موادّ مختارة من الصحافة الفلسطينيّة قبل النكبة، ولا سيّما الثقافيّة؛ لنذكر، ونشتاق، ونعود.